السفير الدكتور الحبيب النوبي يكتب : “الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر” أسطورة كاذبة
في أعقاب كل حرب، وحتى قبل أن تهدأ أصوات القنابل، وينقشع دخان البارود، يكون المفكرون والمحللون العسكريون والسياسيون قد بدأوا، بالفعل، في دراسة نتائج أعمال القتال، وما حققته تلك الحرب، والدروس المستفادة منها. واليوم، إن وضعت نفسي في مكان أي من مراكز الدراسات الإسرائيلية، التي ستشرع، كغيرها، في تقييم نتائج الحرب في غزة، التي استمرت لمدة خمسة عشر شهراً، منذ اندلاعها في أكتوبر ٢٠٢٣، فسيكون لي الكثير من التوصيات والتوجيهات.
وكطبيعة تلك النوعية من الدراسات، فإن تقييمها، وتحليل نتائجها، يرتبط، بالأساس، بالنظر إلى أهدافها، ودراسة ما تحقق منها، لذا دعونا نسرد، في البداية، أهداف تلك الحرب، كما أعلنتها إسرائيل، منذ اليوم الأول لعملياتها العسكرية في غزة، والتي تمثلت في تحرير الرهائن بالقوة، كهدف أول، وهو ما لم يتحقق، إذ لم يتم تحرير الرهائن إلا من خلال المفاوضات، أما ثاني الأهداف فكان القضاء على حماس، وهم ما لم يتحقق، كذلك، حتى وإن تمكنت إسرائيل من إضعاف قوة حماس العسكرية، إلا أنها لم تقضِ عليها. كما أعلنت إسرائيل عن هدفها الثالث من الحرب، وهو الاستيلاء على غزة، وإخلائها من مواطنيها، وهو ما فشلت فيه إسرائيل، وخرجت قواتها من غزة خاوية الفرائض، ولم تتمكن من إخلائها، بعدما تصدى الرئيس السيسي للمخطط الإسرائيلي بتهجير أهالي غزة، قسرياً، إلى سيناء. وهكذا يتأكد لنا أن إسرائيل لم تحقق أي من أهدافها في الحرب.
أما بالنسبة لأهدافها الداخلية، فقد ادعت الحكومة الإسرائيلية أن حربها في غزة، وعملياتها العسكرية في جنوب لبنان، من شأنها توفير الأمن والأمان لشعب إسرائيل، باعتبار أن الجيش الإسرائيلي يحارب كل من يحاول المساس بالمواطن الإسرائيلي، إلا أنها فشلت، مرة أخرى، في ذلك، ووجد الإسرائيليون أنفسهم تحت وابل من الهجمات الصاروخية سواء من حماس أو الحوثيون أو حزب الله، على مدار خمسة عشر شهراً، تم خلالهم قصف تل أبيب وحيفا وإيلات، فكانت صفارات الإنذار تُطلق في كل مكان، حتى اليوم الأخير قبل وقف إطلاق النار، وعجز جيش الاحتلال الإسرائيلي عن حماية الإسرائيليون، الذين أصيب الآلاف منهم.
وبتحليل العمليات القتالية نجد أن جيش الاحتلال الإسرائيلي اعتمد على ثلاثة أنظمة دفاع جوي للتصدي للطائرات المعادية والصواريخ، وهم القبة الحديدية، ومقلاع داود، والسهم (حيتسي)، ورغم تزامن عمل تلك الأنظمة، إلا أنها فشلت، جميعاً، في حماية سماء إسرائيل، وهو ما أتوقع معه صدور توصيات بضرورة تطويرها ورفع كفاءتها، للقيام بمهامها. أما عن قدرات الجيش الإسرائيلي في الدخول في حرب تقليدية، مع جيوش نظامية، فقد أثبتت حرب غزة أن الجيش الإسرائيلي قد اكتسب خبرات قتالية، وتخطيطية، في مواجهة حروب العصابات وحروب المدن، ولكن فقد كفاءته القتالية في الحروب التقليدية ضد أي جيش نظامي، وهو ما من شأنه التوصية بعدم التورط في أي حرب نظامية، قبل مرور عامين على الأقل، لحين إعادة تأهيل القوات والتدريب على الحرب التقليدية. وقد لفت انتباهي، بشدة، ما كشفته الحرب من مواطن الضعف في معنويات القوات الإسرائيلية، انعكست من خلال دخول أعداد من الجنود للمستشفيات العسكرية، للحصول على العلاج النفسي، نتيجة رفضهم للحرب.
من ناحية أخرى، واجه الجيش الإسرائيلي صعوبات في التعامل مع قوات الحوثيين في اليمن؛ فرغم توجيه ضربات صاروخية، وهجمات جوية، غير فعالة، ضدهم، سواء من جيش الاحتلال الإسرائيلي، أو من قوات التحالف في البحر الأحمر، إلا أن دقة الحوثيون في إطلاق صواريخ باليستية كان ملحوظاً، وهو ما يدل على اتساع قاعدتهم المعلوماتية، مقابل المحدودية النسبية لمعلومات جيش الاحتلال عنهم، والتي اعتمدت على معلومات قوات التحالفات الأمريكية والغربية في البحر الأحمر، وهو ما لم يكن كافياً. لذا أتصور أن يحاول جيش الاحتلال الإسرائيلي، مستقبلاً، تحقيق تواجد عسكري في منطقة القرن الأفريقي، لحماية مصالحه الملاحية في البحر الأحمر، بما لذلك من تأثير مباشر على ميناء إيلات.
أما الإعلام الإسرائيلي، فقد تجلى ضعفه في التصدي لموجات الغضب التي اجتاحت عواصم العالم، نتيجة للأعمال الوحشية التي يمارسها جيش الاحتلال ضد المدنيين، العُزل، في غزة، وضد منظمات الإغاثة الأممية، حتى أن 800 جامعة أمريكية شهدت مظاهرات لتأييد الشعب الفلسطيني، واتهام الجيش الإسرائيلي بارتكاب جرائم حرب في غزة والضفة الغربية. ورغم دعم الكثير من الإعلام الغربي لإسرائيل، من خلال الرقابة على المحتوى الإعلامي المتداول، والتمييز ضد غزة، بما جعل ما يذاع، سواء القصف المستمر للمدارس والمنازل والمستشفيات، لا يتعد كونه نسبة ضئيلة من فظائع الاحتلال، إلا أن الحرب كشفت حقيقة إسرائيل أمام كل شعوب العالم، وبعض قياداته، كدولة لا تراعي حقوق الإنسان، ولا تلتزم بالقوانين والمواثيق الدولية.
وفي ذات السياق، وعلى الصعيد السياسي، فقد كانت الحرب سبباً في إدانة إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، وإدانة رئيس حكومتها، بنيامين نتنياهو، لتفقد إسرائيل تأييد بعض الشعوب الداعمة لها، من قبل، وتسقط الشماعة التي كانت تعلق عليها أخطاءها، وهي “كره العالم لليهود”، كما ثبت، للمرة الثانية، بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣، كذب أسطورة “الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر”، بعدما تهاوى أمام ضربات المقاومة.
وأخيراً، أتوقع تشكيل إسرائيل لجنة لمحاسبة المقصرين في تلك الحرب، مثلما سبق وشكلت لجنة أجرانات في أعقاب حرب ١٩٧٣، وهو ما يخشاه نتنياهو، يقيناً من نتائج تلك اللجنة!
Email: aaicaaiccentre@gmail.com