✍️بقلم:-الدكتور إبراهيم حامد عبداللاه…أستاذ الأدب الألمانى…رئيس قسم اللغة الألمانية-كلية الآداب..جامعة بنى سويف
تُعد ثلاثية القاهرة لنجيب محفوظ وثلاثية دانزيج لجونتر جراس من الأعمال الأدبية التي أثرت بشكل كبير في الأدب العالمي، حيث قدّم كل من الكاتبين رؤية فنية معمقة للتحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي شهدتها مجتمعاتهما في القرن العشرين. من خلال هذه الأعمال، استطاع كلا الكاتبين أن يعكسا التغيرات الكبرى في حياة الأفراد والمجتمعات، وكيف يمكن للتاريخ أن يساهم في تشكيل الهوية الشخصية والجماعية. وعلى الرغم من اختلاف السياقات الثقافية والتاريخية التي نشأت فيها كل من الروايتين، إلا أن هناك قواسم مشتركة تجمع بين ثلاثية القاهرة وثلاثية دانزيج، حيث يتناول كل منهما قضايا الذاكرة التاريخية، والتغيرات الاجتماعية، والصراعات بين الأجيال.
نجيب محفوظ، الذي وُلد في 11 ديسمبر 1911 في القاهرة، نشأ في مجتمع شهد العديد من التحولات الهامة، ابتداءً من الاحتلال البريطاني لمصر، مرورًا بثورة 1919، وصولًا إلى ثورة 1952 وصعود الحركات القومية في العالم العربي. في هذا السياق، كتب ثلاثيته الشهيرة التي تتألف من “بين القصرين”، “قصر الشوق”، و”السكرية”، التي نُشرت بين عامي 1956 و1957. تتناول هذه الروايات حياة أسرة أحمد عبد الجواد، وهي تمثل صورة مصغرة للمجتمع المصري في فترة التحولات الكبرى التي مر بها في أوائل القرن العشرين. ومن خلال هذه العائلة، يقدّم محفوظ صورة حية للصراعات الداخلية والخارجية التي تواجهها الطبقات الاجتماعية المختلفة، وخاصة في إطار العلاقة بين الأجيال القديمة والجديدة. فقد كانت الرواية في هذه الفترة نوعًا من النقد الاجتماعي للمجتمع المصري، مع التركيز على التوترات بين التقاليد والحداثة، والطبقات الاجتماعية، والسلطة الأبوية.
أما جونتر جراس، الذي وُلد في 16 أكتوبر 1927 في مدينة دانزيج (التي تُعرف اليوم بجدانسك في بولندا)، فقد شهد صعود النازية، والحرب العالمية الثانية، وكذلك تقسيم ألمانيا في مرحلة ما بعد الحرب. تنبع أهمية ثلاثيته، التي تضم “طبلة من صفيح” (1959)، “القط والفأر” (1961)، و”سنوات الكلاب” (1963)، من قدرتها على تقديم نقد اجتماعي وتاريخي عميق حول ألمانيا في تلك الفترة المضطربة. تناول جراس في هذه الروايات الذنب الجماعي الذي يحمله الشعب الألماني نتيجة ما فعله النظام النازي، كما قدّم شخصية أوسكار ماتسيرات، بطل “طبلة من صفيح”، الذي يرفض النمو جسديًا ليبقى طفلًا في عالم مليء بالفوضى والتناقضات. تعكس الروايات بشكل أساسي البحث عن الهوية الشخصية والوطنية في مجتمع مدمّر نفسيًا وأخلاقيًا، حيث يعكس جراس الارتباك الذي يشعر به الألمان بعد الحرب حول مسؤولياتهم تجاه ماضيهم.
إن الأسلوب الأدبي الذي استخدمه نجيب محفوظ في ثلاثية القاهرة يبرز الواقعية الاجتماعية بشكل كبير، حيث ركّز على وصف التفاصيل اليومية والبيئة الاجتماعية التي يعيش فيها الأفراد. فشخصية أحمد عبد الجواد، الأب المتسلط في الأسرة، تمثل النموذج التقليدي للسلطة الأبوية التي تتحكم في سلوك الأفراد. إن محفوظ من خلال هذه الشخصيات والأحداث يعكس التغيرات التي يشهدها المجتمع المصري، مثل صعود الحركات السياسية والبحث عن الاستقلال في مواجهة الاحتلال البريطاني. مع التركيز على هذه الشخصيات وتفاعلاتها، يقدم محفوظ في رواياته صورة غنية ودقيقة للمجتمع المصري في فترة حرجة من تاريخه، ويعالج قضايا مثل مكانة المرأة، والتعليم، والدين، والحب.
أما جونتر جراس، فقد استخدم أسلوبًا أدبيًا مختلفًا تمامًا في ثلاثيته، حيث يمزج بين الواقعية والسخرية الرمزية. لم يكن جراس يلتزم بالخط الزمني الثابت، بل كان يتنقل بحرية بين الماضي والحاضر، مما يخلق تأثيرًا من التشظي والتمزق الذي يعكس الحالة النفسية للمجتمع الألماني بعد الحرب، فأسلوبه يتميز بالسخرية السوداء التي تلتقط بمرارة الواقع المظلم الذي يعيشه الألمان في تلك الفترة. كما استخدم جراس الرمزية والغرابة بشكل مكثف، مثل شخصية أوسكار الذي يرفض النمو، والتي أصبحت رمزًا للرفض الاجتماعي والاحتجاج على الواقع الألماني بعد الحرب.
من ناحية الموضوعات، تعد ثلاثية القاهرة لنجيب محفوظ من أبرز الأعمال الأدبية التي تعكس التغيرات الاجتماعية والسياسية التي كانت تمر بها مصر في أوائل القرن العشرين. وتتناول هذه الرواية مجموعة من القضايا التي تعكس التحولات الكبرى في المجتمع المصري، بدءًا من الصراع بين الأجيال، وصولًا إلى فحص العلاقة المعقدة بين الفرد والمجتمع. فعلى مدار الأجزاء الثلاثة، يعكس محفوظ التوترات بين الأجيال المختلفة، حيث يظهر جيل الأب، ممثلًا في شخصية أحمد عبد الجواد، الذي يجسد القيم التقليدية والمُحافظة، ويمثل نموذج السلطة الأبوية التي تقيد الأفراد داخل الأسرة والمجتمع. بينما يظهر الجيل الجديد، ممثلًا في شخصية كمال، الذي يسعى إلى التحرر الفكري والبحث عن هويته بعيدًا عن هيمنة الأب والتقاليد المجتمعية.
يُعد كمال شخصية محورية في الثلاثية، حيث يُظهر من خلاله محفوظ الصراع الداخلي بين الرغبة في التحرر من القيود الاجتماعية من جهة، وبين التمسك بالقيم التقليدية التي نشأ عليها من جهة أخرى. إن كمال لا يسعى فقط إلى التحرر الشخصي، بل يسعى أيضًا إلى فهم أعمق لعلاقة الفرد بالمجتمع، ويتساءل عن الدور الذي ينبغي أن يلعبه في التغيرات التي تشهدها بلاده. هذا الصراع الداخلي يعكس الارتباك الذي كان يعيشه جيل الشباب المصري في تلك الفترة، بين الطموحات الحديثة وحياة التقاليد المحافظة.
إن الشخصيات في الرواية تتطور مع مرور الزمن، مما يعكس بوضوح التحولات الاجتماعية والسياسية الكبرى التي كانت تمر بها مصر في تلك الحقبة، ويظهر ذلك من خلال الأحداث التاريخية التي يشهدها المجتمع المصري، مثل تصاعد الحركات السياسية في فترة الاحتلال البريطاني وموجات التحولات التي بدأت في الظهور في ظل الحركات الوطنية، فهذه الحركات تظهر كجزء من الصورة الأكبر للمجتمع، وتساهم في توجيه مسار الشخصيات وتغيير أيديولوجياتهم.
بالإضافة إلى ذلك، تعكس الثلاثية أيضًا دور المرأة في هذا المجتمع المتغير. فالشخصيات النسائية داخل الثلاثية تمثل المرأة في المجتمع المصري، ويقدمان صورة متناقضة لواقع المرأة في تلك الحقبة. بينما تتحرر بعض الشخصيات النسائية في تفكيرها وحركتها، فإن أخريات يظللن مقيدات بأدوارهن التقليدية في الأسرة والمجتمع، مما يعكس الصراع بين التقليد والحداثة في فكر المرأة المصرية.
ولا يمكن إغفال تأثير الاستعمار البريطاني على المجتمع المصري في تلك الفترة، إذ يتجلى ذلك في الحياة اليومية للشخصيات، التي تعيش في ظل الاحتلال وتواجه تحدياته. يتجسد هذا التأثير في الصراع السياسي الذي يُعبر عن انقسام المجتمع بين مؤيد ومعارض للاحتلال، وهو صراع ينعكس على الأفراد والأسر في علاقاتهم اليومية.
ففي المجمل، تتمحور ثلاثية القاهرة حول دراسة عميقة للتحولات الاجتماعية التي عاشها المجتمع المصري، حيث يتقاطع الصراع بين الأجيال مع تطلعات الفرد في الحصول على الحرية الشخصية والفكرية. من خلال هذه الرواية، يعرض نجيب محفوظ صورة واقعية للمجتمع المصري في مرحلة دقيقة من تاريخ بلاده، مستعرضًا القضايا الاجتماعية والسياسية التي شكلت معالم تلك الفترة.
من ناحية أخرى، تتمحور ثلاثية دانزيج لجونتر جراس حول قضايا معقدة تتعلق بالذاكرة التاريخية والتاريخ الجماعي والذنب الجماعي. هذه القضايا تُعتبر من أبرز الموضوعات التي يعالجها جراس في أعماله، حيث يعكس بوضوح الصراع الألماني الداخلي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، والصراع النفسي الذي كان يعصف بالأفراد والمجتمع الألماني بأسره في أعقاب الدمار الذي ألحقته الحرب، فيعرض جراس كيف أن المجتمع الألماني كان في حالة من التناقض الداخلي، حيث كان من الصعب على الكثيرين مواجهة الحقائق المظلمة التي ارتُكبت خلال فترة النظام النازي. ومن خلال هذا الصراع النفسي، يطرح جراس العديد من الأسئلة المحورية مثل، من المسؤول عن الفظائع التي ارتكبت في الحرب؟ وكيف يمكن للمجتمع الألماني أن يتعامل مع ماضيه الثقيل؟
يتمحور جزء من هذه التساؤلات حول فكرة الذنب الجماعي الذي يشعر به الألمان بعد نهاية الحرب، وهو ما يظهر في العديد من الشخصيات التي صوّرها جراس، ومنها شخصية أوسكار ماتسيرات، بطل رواية “طبلة من صفيح”. فمن خلال أوسكار، يعكس جراس الرفض العميق للواقع وللتاريخ الذي شكّل هذا الواقع. فأوسكار، الذي يرفض النمو ويظل في جسد طفل رغم مرور الزمن، يمثل رفضًا للعالم الذي كان مليئًا بالحروب والدمار، وهو بمثابة رفض للفكرة السائدة عن النمو والتطور في المجتمع الألماني الذي كان قد تأثر بشكل عميق بالماضي المظلم. فهنا أوسكار لا يتوقف عند رفضه للنمو الجسدي فقط، بل إنه يرفض أيضًا الانخراط في المجتمع الذي كان يراهن على النسيان والتجاهل لماضيه المظلم، مما يعكس رغبة في الهروب من المسؤولية الجماعية ومن الاضطراب الذي تسببه الذكريات الأليمة.
كما يطرح جراس من خلال رواياته مسألة الهوية الألمانية بعد الحرب. على الرغم من أن الحرب العالمية الثانية قد انتهت، فإن هذا لم يعني نهاية المعاناة على المستوى الفردي أو الجماعي، بل على العكس، فقد بدأت المعركة الحقيقية تتكشف في الداخل، حيث كانت الهوية الألمانية قد تأثرت بشكل عميق بالأحداث التي مر بها الألمان خلال الحرب. يطرح جراس التساؤل عن كيفية إعادة بناء هذه الهوية في ظل التاريخ الذي شهد ارتكاب الفظائع، وهل يمكن لألمانيا أن تجد طريقًا إلى التوبة والتعافي من الجراح التي خلّفها النازيون؟
على الرغم من الفروق في الأسلوب والموضوعات، إلا أن كلا من نجيب محفوظ وجونتر جراس قدما أعمالًا عميقة تعكس التحولات الكبرى التي مرت بها مجتمعاتهما. ففي ثلاثية القاهرة، قدم محفوظ صورة غنية للمجتمع المصري من خلال عائلة واحدة، بينما في ثلاثية دانزيج، قدّم جراس نقدًا ساخرًا للمجتمع الألماني من خلال رمزية وأسطورية مُثيرة للتفكير. وفي النهاية، فإن كل من الثلاثيتين تتجاوز حدود الزمان والمكان لتتطرق إلى أسئلة إنسانية كبرى تتعلق بالهوية، الذنب، والتغيير الاجتماعي.
أقرأ التالي
6 ديسمبر، 2024
تنس الطاولة للمكفوفين
28 نوفمبر، 2024
فى مركز ومدينة ملوى … احتفالات اعياد الطفولة بقاعة المؤتمرات
28 نوفمبر، 2024
بين رواية “الفيل الأزرق” لأحمد مراد ورواية “التحول” لفرانز كافكا..( رحلة إلى أعماق النفس البشرية)
26 نوفمبر، 2024
ليبيا تشارك في الاجتماع بمنظمة الإسكوا
زر الذهاب إلى الأعلى