في استكشاف الهوية والعلاقات الأسرية..بين منصورة عز الدين و دنييلا دروشر
منذ يوم واحد
0 529 7 دقائق
بقلم:-الدكتور إبراهيم حامد عبداللاه…
أستاذ الأدب الألمانى…رئيس قسم اللغة الألمانية-كلية الآداب-جامعة بنى سويف- عميد كلية الألسن سابقا
“ما وراء الفردوس” و “أكاذيب عن إمي”: مقارنة بين منصورة عز الدين ودنييلا دروشر في استكشاف الهوية والعلاقات الأسرية
يُعد الأدب من أهم الوسائل التي تعكس التوترات النفسية والاجتماعية في المجتمعات المختلفة، حيث تتناول الروايات الأدبية قضايا الإنسان في سياقات اجتماعية وثقافية متعددة. الكاتبتان منصورة عزالدين و دنييلا دروشر، على الرغم من انتمائهما إلى خلفيات ثقافية مختلفة تمامًا، تتناولان في روايتيهما “ما وراء الفردوس” و “أكاذيب عن إمي” قضايا متشابكة تتعلق بالهوية والعلاقات الأسرية، والبحث عن الحقيقة وسط الأكاذيب، والتحولات الاجتماعية التي تؤثر على الأفراد. من خلال هذا المقال، سنقوم بمقارنة بين الروايتين من حيث الموضوعات الرئيسية، والأسلوب الأدبي، والسياقات الاجتماعية التي تعكسانها، مع التركيز على تأثير كل منهما في الأدب المعاصر.
إن منصورة عزالدين، كاتبة مصرية وُلدت في عام 1976 في مدينة الإسكندرية، وتعتبر من أبرز الأصوات الأدبية في الأدب العربي المعاصر، حيث تمزج الكاتبة منصورة عزالدين في أعمالها بين الواقع الاجتماعي في المجتمعات العربية وتتناول القضايا النفسية والعاطفية التي يواجهها الأفراد. إن روايتها الشهيرة “ما وراء الفردوس” التي نُشرت في 2010، وهي تروي قصة حياة أسرة في الريف المصري في وقت يشهد تحولات اجتماعية واقتصادية كبيرة. فالرواية تتناول قضايا الهوية، وصراع الأجيال، والتحولات الاجتماعية والاقتصادية في مصر، وخاصة من خلال التركيز على وضع النساء في المجتمع الريفي، مما يجعلها رواية غنية بالبعد الاجتماعي والثقافي.
أما دنييلا دروشر، فهي كاتبة ألمانية وُلدت في عام 1977 في مدينة ميونخ بألمانيا، وتركز في أعمالها الأدبية على قضايا العلاقات الأسرية والنفسية المعقدة، حيث تتناول الروابط الأسرية، والأكاذيب، والهويات المخبأة، وما يعترض طريقها من أسرار وعواطف مكبوتة. إن روايتها “أكاذيب عن إمي” نُشرت في 2018، وهي تدور حول علاقة الابنة بأمها بعد اكتشافها أن أمها كانت تخفي عنها العديد من الحقائق الكبرى عن حياتها. إن الرواية تعكس التوترات النفسية التي تنشأ بين أفراد الأسرة بسبب الأكاذيب وتكشف تأثير تلك الأكاذيب على بناء هوياتهم الشخصية والعاطفية.
الموضوعات الرئيسية في الروايتين
تتداخل الموضوعات في كل من رواية “ما وراء الفردوس” ورواية “أكاذيب عن إمي” حول قضايا الهوية والصراع النفسي، لكن كل رواية تطرح هذه القضايا في سياق مختلف تمامًا. في رواية الكاتبة عزالدين “ما وراء الفردوس”، تتناول الكاتبة قضايا تتعلق بالطبقات الاجتماعية في المجتمع المصري، حيث تركز على كيفية تأثير التقاليد والقيم الاجتماعية على الأفراد في الريف المصري. الرواية لا تقتصر فقط على الصراع الداخلي لشخصياتها، بل تتعامل مع صراع الأجيال والعلاقة بين الأفراد وتاريخهم الثقافي، وتطرح تساؤلات عن الهوية والانتماء في مجتمع مليء بالتغيرات الاقتصادية والاجتماعية.
وفي المقابل، تُركز رواية “أكاذيب عن إمي” على الصراع النفسي بين الأم وابنتها، حيث يتم اكتشاف سلسلة من الأكاذيب التي كانت الأم تخفيها عن ابنتها طوال حياتها. وتدور الرواية حول العلاقة بين الحقيقة والكذب، وكيف تؤثر الأكاذيب على بناء الهوية الذاتية للشخصيات. بينما تقدم عزالدين صورة عن التوترات الثقافية والاجتماعية في المجتمع المصري، كما تركز الكاتبة دروشر على التوترات النفسية والعاطفية في سياق العلاقات الأسرية في المجتمع الغربي المعاصر.
أسلوب الكتابة والسرد
من حيث أسلوب الكتابة، تتباين الروايتان في الأسلوب والسرد. في رواية “ما وراء الفردوس”، تستخدم منصورة عزالدين أسلوب السرد الواقعي الذي يعكس التفاصيل الحية للواقع المصري، وخاصة في الريف، حيث تتسم الرواية بالغنى الوصفي للشخصيات والأماكن. يتيح هذا الأسلوب للقارئ أن يشعر بالبيئة الاجتماعية التي يعيش فيها الأفراد، مما يعزز من عمق الموضوعات التي تطرحها الرواية حول الهوية والتحولات الاجتماعية.
أما في رواية “أكاذيب عن إمي”، فإن أسلوب دنييلا دروشر أكثر تركيزًا على التحليل النفسي للأفراد. إن يتم سرد الرواية بطريقة مكثفة وشخصية، حيث يتم تسليط الضوء على مشاعر الشخصية الرئيسية، وهي ابنة تُحاول فهم علاقتها مع أمها في ضوء الحقائق التي تكشف عن نفسها. يتميز أسلوب دانييلا دروشر بتفاصيل دقيقة عن مشاعر الشخصيات وصراعهم الداخلي مع الأكاذيب والذاكرة، مما يجعل الرواية تتسم بعنصر نفسي قوي ومشحون بالعواطف.
السياقات الاجتماعية والثقافية
إن السياقات الثقافية والاجتماعية التي تنتمي إليها الروايتان تعكس بشكل دقيق التحديات التي يواجهها الأفراد في مجتمعاتهم. فرواية “ما وراء الفردوس” تجسد التحديات الاجتماعية في مصر، حيث تسلط الضوء على التوترات بين الأجيال في الريف المصري والتغيير الثقافي والاجتماعي الذي يحدث نتيجة للحداثة. كما تتناول الرواية قضايا متعلقة بالطبقات الاجتماعية، ووضع النساء في المجتمع، وكذلك كيفية تأثير التقاليد والعادات على الفرد. تعتبر هذه الرواية مرآة للواقع المصري، خصوصًا في المناطق الريفية، وتطرح قضايا الانتماء والهوية.
أما “أكاذيب عن إمي”، فتعكس الواقع الغربي، وتركز على العلاقات الأسرية في ألمانيا، حيث تستعرض رواية دروشر موضوعات مثل الأكاذيب الأسرية، وتأثيرها على العلاقات بين الأفراد، خاصة بين الأم وابنتها. وكذلك تسلط الرواية الضوء على التوترات النفسية الناتجة عن الأزمات العائلية في سياق اجتماعي معاصر، حيث تتعدد القيم الأسرية وتتحول الأنماط السلوكية نتيجة لعدم التواصل بين أفراد الأسرة.
في روايتي “ما وراء الفردوس” للكاتبة منصورة عزالدين و”أكاذيب عن أمي” للكاتبة دنييلا دروشر، تتنوع الشخصيات بشكل كبير سواء من حيث الخلفيات الثقافية أو من حيث السياقات النفسية والاجتماعية التي تشكلها. على الرغم من اختلاف السياقات الثقافية بين الروايتين، إلا أن الشخصيات في كلا الروايتين تعكس صراعات داخلية عميقة، تتعلق بالهوية، والعلاقات الأسرية، والمجتمع.
الشخصيات في رواية “ما وراء الفردوس”
إن رواية “ما وراء الفردوس” تتناول حياة مجموعة من الشخصيات التي تنتمي إلى الطبقات الريفية في مصر، مع التركيز على العلاقات بين الأجيال المختلفة وكيفية تأثير التقاليد و القيم الاجتماعية في تشكيل مصير كل شخصية.
فـ “سلمى”، وهي الشخصية الرئيسية في الرواية، وهي شابة مصرية تعيش في بيئة ريفية تقليدية. إن سلمى هي نموذج للبحث عن الهوية والتحرر في مواجهة القيم الاجتماعية الموروثة. فهذه الفتاة تمثل جيلًا يسعى لفهم ذاته خارج نطاق التقاليد، وهي في صراع داخلي بين رغبتها في تحقيق استقلالها وبين تمسكها بعادات الأسرة والمجتمع. إن سلمى تتحدى من خلال اختياراتها الأسرية والمهنية القيم التقليدية التي تحكم حياة أفراد مجتمعها. ويمثلها الصراع بين الفرد والمجتمع والتساؤل حول ما إذا كان بالإمكان التوفيق بين هويتها الشخصية ومتطلبات مجتمعها الريفي.
شخصية “أمينة”، التي تمثل الجيل القديم المتشبث بالتقاليد، فهي أم سلمى وامرأة ريفية متأثرة بالعادات والتقاليد العميقة التي تعيش بها. إنها تعيش في عالم يؤمن بقوة الأسرة والمجتمع أكثر من الفرد. فتُظهر شخصية أمينة التحديات التي يواجهها الجيل القديم في محاولة الحفاظ على القيم التقليدية في عالم يشهد تغييرات اجتماعية وسياسية كبيرة، وهي شخصية مليئة بالحب العميق لأسرتها ولكن في ذات الوقت مفعمة بالحذر من أي تهديد قد يمسّ استقرار حياتهم.
أما حسين، وهو شخصية تظهر في الرواية كجزء من شبكة العلاقات العائلية التي تشكل الصراع النفسي للشخصيات الرئيسية. إن حسين هو صورة للرجل الريفي التقليدي الذي يتبع القيم الذكورية، ويعتبر نفسه القائد والمسؤول عن مصير العائلة. يتسم بالعقلية الذكورية التي تتصور دور المرأة بشكل محدد، مما يجعله في صراع دائم مع شخصيات أخرى تسعى لتحدي هذه الرؤى.
الشخصيات في رواية “أكاذيب عن أمي”
إن رواية “أكاذيب عن أمي” للكاتبة دنييلا دروشر تتناول الصراع النفسي في العلاقات الأسرية داخل مجتمع ألماني معاصر، حيث تركز بشكل كبير على الكذب والعلاقات المتوترة بين الأم وابنتها.
الابنة (الراوية): هي الشخصية الرئيسية في الرواية، التي تسعى للكشف عن الحقيقة خلف ماضي والدتها. هي شخصية في مرحلة البلوغ وتعيش في صراع نفسي بسبب اكتشافها أن والدتها قد أخفت عنها بعض الحقائق المهمة طوال حياتها. تتسم هذه الشخصية بالبحث المستمر عن الهوية والفهم العميق للذات. هي شخصية معقدة تجمع بين التمرد على كذبة الأم ورغبتها في فهم الأسباب التي جعلت والدتها تخفي عنها هذه الحقائق. إن الصراع الذي تواجهه الساردة في الرواية يعكس تطور العلاقة بين الأم وابنتها عبر الزمن، وكيف تتغير نظرتها للأشياء عندما تبدأ في فهم ماضي والدتها.
شخصة الأم: إن الأم في رواية “أكاذيب عن أمي” هي شخصية غامضة ومليئة بالأسرار، وهي تمثل الجيل الأكبر الذي غالبًا ما يفضل إخفاء مشاعره الحقيقية. فالأم تعتبر رمزًا لعدم القدرة على التعبير عن نفسها بشكل صريح، وقد خَبَأت العديد من الحقائق عن ابنتها طوال حياتها. إن مشكلة الأم تتمثل في الرواية في أنها تبني حياتها على الأكاذيب، ليس بدافع سوء النية، ولكن بسبب الظروف التي فرضتها عليها الحياة، بما في ذلك الحروب، والضغط الاجتماعي، وعدم القدرة على التكيف مع الواقع الجديد. وهنا تمثل الأم الجيل الذي يواجه صعوبة في التواصل مع الجيل الجديد، مما يخلق فجوة بين الأجيال.
الأب: إن شخصية الأب في الرواية تكمّل دائرة الشخصيات العائلية، حيث يكون غالبًا حاضرًا بشكل غير مباشر في حياة الابنة. فالأب في الرواية يساهم في فهم الصراع بين الأم والابنة من خلال غيابه العاطفي، مما يزيد من تعقيد العلاقات الأسرية في الرواية.
مقارنة بين الشخصيات
الصراع الداخلي: في كلا الروايتين، نجد أن الشخصيات الرئيسية تعيش صراعات داخلية عميقة تتعلق بالهوية والبحث عن الذات. فشخصية سلمى في “ما وراء الفردوس” تحاول أن تجد مكانًا لها في عالم يعرض عليها هويات مختلفة بين التقاليد والحداثة، بينما شخصية الساردة في “أكاذيب عن أمي” تشعر بأنه تم خداعها طوال حياتها وتعيش في صراع مع الأكاذيب التي تم بناء حياتها على أساسها. إن كل شخصية تواجه تحديات داخلية لخلق توازن بين ما هي عليه الآن وما كانت عليه في الماضي.
العلاقات الأسرية: كلا الروايتين تتناولان العلاقات بين الأمهات والبنات، ولكن بينما تكون أمينة في “ما وراء الفردوس” رمزًا للتمسك بالتقاليد والتزامها بالمجتمع الريفي، نجد أن الأم في “أكاذيب عن أمي” هي شخصية مليئة بالأسرار التي تخلق فجوة بين الجيلين، فالعلاقة بين الأم وابنتها في “ما وراء الفردوس” أكثر تماسكًا من الناحية الاجتماعية ولكنها مشحونة بالصراع التقليدي بين الأجيال، في حين أن العلاقة بين الأم وابنتها في “أكاذيب عن أمي” مليئة بالغموض والتوتر الناتج عن الأكاذيب التي تهدم الثقة بينهما.
المسرح الاجتماعي: بينما تقع أحداث رواية “ما وراء الفردوس” في الريف المصري، حيث تُعَاش الحياة بين الزراعة والتقاليد الصارمة، نجد أن الأحداث في رواية “أكاذيب عن أمي” تدور في بيئة حضرية معاصرة في ألمانيا، حيث تبرز التوترات النفسية بسبب العولمة والانعزالية الاجتماعية، فشخصيات “ما وراء الفردوس” تتأثر مباشرة بالظروف الاجتماعية والاقتصادية في مجتمع تقليدي، بينما شخصيات “أكاذيب عن أمي” تعكس قضايا العزلة النفسية في المجتمعات الحضرية الحديثة.
رغم الفروق الثقافية والتاريخية بين “ما وراء الفردوس” و”أكاذيب عن أمي”، إلا أن الشخصيات في كلتا الروايتين تشترك في صراعات مشابهة تتعلق بالبحث عن الهوية والتمرد على الأكاذيب والقيود التي يفرضها المجتمع. من خلال تحليل الشخصيات في الروايتين، يمكننا أن نرى كيف أن الأدب يعكس التوترات النفسية والاجتماعية التي يعاني منها الأفراد في مجتمعاتهم، سواء كان ذلك في مجتمع ريفي في مصر أو في مجتمع حديث في ألمانيا.
إن كلا من “ما وراء الفردوس” و “أكاذيب عن إمي” تقدمان رؤى أدبية غنية حول التحديات النفسية والاجتماعية التي يواجهها الأفراد في مجتمعاتهم المختلفة، لكن مع التركيز على قضايا مختلفة في سياقات ثقافية متنوعة. رواية منصورة عزالدين تنقل لنا حياة الأفراد في الريف المصري في مواجهة تحديات التقاليد والتحولات الاجتماعية والاقتصادية، بينما تركز دنييلا دروشر على العلاقات الأسرية في المجتمع الغربي، وتطرح تساؤلات حول الأكاذيب وأثرها على الهوية وبناء الذات.
من خلال المقارنة بين الروايتين، يظهر كيف أن الأدب يمكن أن يكون وسيلة قوية لفهم الاختلافات الثقافية والاجتماعية بين المجتمعات، وكذلك لفهم الصراعات الداخلية التي تواجهها الشخصيات في عالم معاصر مليء بالتحديات.