“..مصر يا عبلة” كيف كانت وماذا أصبحت .. سيرة فنان تشكيلي شاهد على عصر الجمهورية الأولى

كتبت – تغريد الصبان
يا عاشقي قراءة السير الذاتية للشخصيات الكبرى التي غيرت وجه العالم وربما اهتمت بمجتمعها فقط .. هل قرأتم يوما سيرة أحد الفنانين التشكيليين ؟
نعم.. للفنان التشكيلي سيرة، بل وسيرة هامة تستحق الوقوف عندها والتعلم منها، فالفنان التشكيلي غير وجه مجتمعه وعصره وامتد لأجيال بعيدة عنه في هدوء وصمت وبأبسط الوسائل، قلمه الرصاص .. ريشته وألوان باليتته المستقاه من بيئته، المستوحاة من ألوان بشرته وبشرة أهله وناسه، تكويناته وافكاره وخيالاته انعكاس لكل المشاهد الحياتية في بلاده، الاجتماعية منها والثقافية .. و كلاهما متأثرا بالأوضاع السياسية والاقتصادية التي أثرت أيضا بدورها على التعليمية والصحية.
سيرة الفنان التشكيلي هي الأيسر والأمتع في القراءة والتعلم وتدعو لإعمال العقل والخيال وفهم الكثير من المجتمعات في حقب زمنية مختلفة، لأن قصة حياته المختلطة والمتشبكة بأهله وناسه – رغم عزلته أو انعزاله – تعتبر دراسة بينية هامة لكل علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا وحتى السياسيين الأذكياء ذوي الطموح الكبير في المشروعات القومية الكبرى.
“.. مصر يا عبلة ” عنوان ماكر و لكن لهدف نبيل، فللوهلة الأولى تظن عين قارئه من أبناء جيل سبعينات وثمانينيات القرن العشرين أنه مجتزأ من الجملة الشهيرة التي قالها ضابط المخابرات خالد “محمود ياسين” للجاسوسة المصرية عبلة “مديحة كامل” التي عملت لصالح الموساد.. ” هي دي مصر يا عبلة” في نهاية فيلم “الصعود إلى الهاوية” أحد أهم أفلام الجاسوسية الذي أنتج عام 1978، لذا أراد به الفنان التشكيلي محمد عبلة صاحب السيرة التي نقرأها سويا، محو تلك الوصمة لإسم “عبلة” وهو اسم عائلته والذي اشتهر به كأحد أهم الفنانين التشكيليين في جيله فليست كل “عبلة” تنكرت لوطنها لأهداف خسيسة.
في عنوان تفصيلي فرعي “سنوات التكوين” في دلالة واضحة أن هذا الكتاب ما هو إلا الفصل الأول في سيرة التشكيلي محمد عبلة الذاتية التي ستتابع بكتب أخرى، استعرض عبلة خلال ثلاثين فصل، حياته الأولى من الطفولة التي بدأت وقت ميلاده عام 1953 ببلقاس – دقهلية و توقف عند رحلته لمدريد التي قام بها عام 1979 بالتزامن مع عام وفاة أستاذه وداعمه الأول الفنان التشكيلي السكندري سيف وانلي، وهنا قصة طريفة تحمل مأساة صغيرة، فالشاب محمد عبلة الذي تمرد على رغبة أبيه في الالتحاق بالكلية الحربية ليبدأ الدراسة بكلية الفنون التطبيقية، التي قرر الدخول لعميدها حينذاك ليخبره في صراحة ووضوح اعتراضه على هذا الكم من المواد النظرية والهندسية وأن قبولهم له كان خديعة لأنه يريد ان يرسم فقط، فما كان من العميد إلا أن طرده وأوراقه في يده ليبحث بنفسه عن الكلية اتي يحلم بها، توجه عبلة لكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية بحماس الشباب ليقدم أوراقه وفوجىء برفض جديد، إنما حماسه ورغبته الصادقة في دراسة الفن جعلته يفكر في البحث عن سيف وانلي الذي بالتأكيد سيساعده في الالتحاق بالفنون الجميلة وتحقيق الحلم، لتبدأ رحلة البحث التي أكدت حجم ظلم الفنان في وطنه، يحكي عبلة كيف أن الكثيرين لم “يسمعوا” عن سيف وانلي حتى أن البعض سخر من الاسم بل وصححوا الاسم بأنه سيف وأخته نيللي بحسب الإمضاء!
سيف وانلي الفنان العظيم الذي جايل العظماء من التشكيليين أمثال سلفادور دالي وبيكاسو وغيرهم ممن طبقت شهرتهم آفاق أوروبا والغرب وليس موطنهم فقط، لم يعرفه أبناء مدينته الإسكندرية، لكنه وصل إليه وكان اللقاء الأول الذي يعكس شجاعة الفتى عبلة المغلفة بالحياء والعزة.
يدق الجرس لكن دقات قلبه أعلى من صوت الجرس متهيبا اللقاء الأول، ليفتح له في منتهى التواضع العظيم سيف وانلي مرحبا به وكأنه يستقبله على موعد مرتب، عبلة يحكي قصته لوانلي .. في هدوء يرفع سماعة التليفون متصلا بكامل بك مصطفى عميد الكلية آنذاك ليفاجأ بدخوله المستشفى إثر أزمة قلبية منذ أيام.. يهاتفه بالمسشتفى ويسأل عنه لكنه يخبره بأمر الموهوب عبلة ويغلق الهاتف، ثم ماذا؟ّ! .. يؤكد لعبلة أنه أصبح طالبا بكلية الفنون الجميلة وعليه إنهاء الإجراءات.
حدث يبدو صغيرا إنما تفاصيله توحي بكثير من النبل لفنان كبير مثل وانلي دعم شابا موهوبا لا يعرفه واحترم صدقه في السعي وراء حلمه، كذلك الزوجة “إحسان هانم” التي كان يستأذنها في كل خطوة يخطوها بالمنزل من باب الاحترام لسيدة المنزل وليس إهانة لرجولته.
“تقبل أوراقه بالكلية لأنه فنان” إمضاء: كامل مصطفى
.. وبدأت الرحلة
بدأ عبلة أولى خطواته في إعدادي فنون جميلة إسكندرية، ليسرد في فقرات منفصلة متصلة أحداث وشخصيات ووكأنها قصص قصيرة تعكس مدى رقي هذا المجتمع أو لنقل هذه الشريحة من مجتمع الفنانين التشكيليين رغم أن البعض منهم لم يكن داعما إنما له مبرره الذي يحترم وقتها.
في مرور عابر يذكر عبلة حكايته في سطور قليلة اعتمدت السرد الحواري بينه وبين سيدة – تناسى ذكر اسمها- بينما رسمها بدقة شديدة في لهجتها القوية التي استدعته بها لمنزلها ليرى هذا المتحف الصغير لأعمال صلاح طاهر التي نفذها بالباستيل وهذا يعني أنها كانت أعماله الأولى قبل تأثره بالألماني كارل جوتز، أولى اللوحات التي اصطدمت عين عبلة بها كانت لملامح السيدة العجوز منذ ثلاثين عاما.. انتهى اللقاء.
ريشة في مهب الريح
رثاء واضح من عبلة لأستاذه مجازا سعيد العدوي، الفنان الشاب الذي غادر عالمنا قبل دخول عبلة الكلية بأشهر قليلة حسرة منه على ضياع فرصته للسفر إلى إيطاليا لحاقا بزملائه الذين غادروا وهجروا الكلية، تاركين طلابها للأساتذة من كبار السن، هذا هو حال السبعينات تحديدا الفترة من نكسة 1967 حتى انتصار 1973 مرحلة فقد الطموح والانكسار ومحاولة الهروب لدول الاستقرار والتقدم خاصة للفنانين التشكيليين، علاوة أنها مرحلة انتقالية في المجتمع المصري الذي توجه صوب الخليج وأوروبا ليعودوا بعد سنوات بثقافات غريبة أساءت للنسيج المصري ونعيش تبعاتها للآن.
..أجمل شىء أن يقابل الإنسان ربه وهو طاهر..!
كيف لتلك المدينة الكوزموبوليتانية – الإسكندرية – أن يجتاحها الفكر الديني المتطرف ؟! وأولى ضرباته كانت لكلية الفنون الجميلة و نشر أفكار رجعية وأوصاف بالحلال والحرام.
في فصل “الموديل العاري” تظهر البدايات الأولى لنشر فكر الجماعات الإسلامية المتطرفة التي باتت توسوس في آذان الموديلات بأن عملهن حرام، على الناحية الأخرى يستقطبون المواهب الفذة من الطلبة.
في حماسه المعهود كان عبلة يسعى لتكوين جماعة الموسيقى في الكلية وعقد الندوات والحفلات الموسيقية والتي تحمس لها الدكتور ماهر رائف هذا الفنان المتميز في رسوم الشخوص والبورتريه المتمكن من الظل والنور، الذي عاد لتوه من ألمانيا محملا بأفكار معاصرة لتطوير مناهج الدراسة في الكلية التي تتسم بالمصرية وليست الأجنبية الممصرة، في الوقت الذي بدا انزلاق عبلة نحو التطرف نوعا لكن نشاط مركز جوتة الثقافي أنقذه من تلك الهاوية الظلامية، لتأتي شعلة انتفاضة الخبز عام 1977 ومشاركة شباب الفنانين فيها، محوا قاسيا للظلامية ومخلصا حقيقيا من الانتكاسة الثقافية.
اللحظة الحاسمة
توتر .. ضغط عصبي .. الجميع يذهب ويجيئ في هدوء .. في انزعاج واضح على خطواته يخرج الأستاذ كامل مصطفى متسائلا ما سر خلافك مع العميد ؟ّ! د/ حامد عويس يتصرف بغرابة!!
الدكتور ماهر رائف يتبعه في التفات يمينا ويسارا واصفا لعويس بالشخصية الغريبة لكنه منح عبلة أعلى درجة.
دكتور عباس شهدي عميد فنون جميلة القاهرة آنذاك بابتسامته المعهودة يخبر عبلة بأنه أغضب عويس كثيرا
أما الأستاذ الفنان حامد ندا يحتضن عبلة في حنان الأب الذي يستحضر شبابه في هذا الموهوب الصغير الذي رسم من نفس مقبرة الأقصر التي سبقه إليها ندا ومنحه أعلى درجة
المشهد يقف عند الدكتور أحمد سطوحي رئيس الكنترول آنذاك الذي صاح بأعلى صوته “أنا رئيس الكنترول لن يدخل أحد إلى الكنترول، لا العميد ولا غيره .. يا عبلة إنهم يريدون أن يغيروا في درجاتك، لن أسمح لي أحد”
هذه هي كواليس مشروع تخرج عبلة ذلك الفنان الشاب المحظوظ بالفنانين الحقيقيين الذين دعموا موهبته من دون سابق معرفة، فوساطة هذا الشاب هي موهبته الحقيقية، كانت فرشاته وألوانه هي كارت التزكية الذي يحمله.
مدريد الحلم
تأشيرة مدريد جاهزة، خطاب إتمام الخدمة العسكرية جاهزة، كارنيه بيوت الشباب مختوما وجاهز أيضا..إذن ماذا تبقى؟
كتاب أشعار لوركا المترجم.. كاسيت الشيخ إمام، رباعيات جاهين، فيروز .. عالمه جاهز تماما للترحال والتنقل.
مشهد النهاية .. ركعتين في مسجد الحسين، جولة بين بيوت وناس القاهرة وشوارعها بعرباتها .. كل عناصر الصورة اكتسبت بهاءا وجمالا يشده للعدول عن حلم السفر ونيل درجة الدكتوراه من مدريد، ظل عبلة يطير في الفضاء مقتربا من مدريد بقدر ابتعاده عن القاهرة وهو كدون كيشوت الذي راح في سبات عميق بعد إجهاد نفسي كبير..
في انتظار الجزء الثاني من سيرة عبلة.