منوعات
د.إبراهيم حامد يكتب…فرانك فيديكيند ورائعته المسرحية “صندوق باندورا”: معاناة المرأة الألمانية بين الواقع والرمز
بقلم:-
الدكتور إبراهيم حامد عبداللاه…
أستاذ الأدب الألمانى…رئيس قسم اللغة الألمانية-كلية الآداب-جامعة بنى سويف- عميد كلية الألسن سابقا
إن فرانك فيديكيند (1864-1918) هو واحد من أبرز الأدباء المسرحيين في الأدب الألماني الحديث، واشتهر بجرأته الفكرية وانتقاده الحاد للمجتمع البورجوازي في أوروبا خلال أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. تعتبر مسرحيته الشهيرة “صندوق باندورا”، التي نُشرت عام 1904، من أعظم أعماله وأكثرها إثارةً للجدل.
تناولت المسرحية حياة النساء في المجتمع البطريركي وسلطت الضوء على القضايا المتعلقة بالنفاق الاجتماعي، والتمييز الجنسي، والصراعات الأخلاقية التي تواجهها النساء. ومن خلال الشخصية الرئيسية “لولو”، قدّم فيديكيند صورة جريئة للمرأة كرمز للتحرر والطموح، مع تصوير معاناتها المستمرة في مواجهة الضغوط الاجتماعية.
فرانك فيديكيند: الكاتب المتمرد على تقاليد عصره
ولد فيديكيند عام 1864 في مدينة هانوفر، في ألمانيا، وكان منذ صغره ناقدًا للمجتمع البورجوازي، حيث رأى فيه ازدواجية القيم والتظاهر بالفضيلة. انعكست هذه الرؤية في معظم أعماله الأدبية التي فضحت الزيف الأخلاقي وسلطت الضوء على الاضطهاد الذي تعاني منه الطبقات المهمشة، وبخاصة النساء.
توفي فيديكيند عام 1918، لكنه ترك إرثًا أدبيًا ضخمًا تجاوز تأثيره الأدب ليشمل الفنون الأخرى، مثل السينما والمسرح الحديث.
“صندوق باندورا”: تجسيد للحرية المكبّلة
“إن صندوق باندورا” هي جزء من سلسلة مسرحيات كتبها فيديكيند، تُعرف بـ “مآسي لولو”، وتشمل أيضًا مسرحية “روح الأرض”، حيث تكشف المسرحية عن صراع المرأة ضد القيود الاجتماعية والأدوار التقليدية المفروضة عليها.
فـ “لولو”، البطلة الرئيسية في مسرحية “صندوف باندورا”، تُصور على أنها امرأة تمتلك جمالًا أخّاذًا وجاذبية فطرية، لكنها تدفع ثمن ذلك في عالم يسيطر عليه الرجال الذين يرونها وسيلة لتحقيق رغباتهم وطموحاتهم. يوضح فيديكيند من خلال شخصية لولو كيف يتحول جمال المرأة إلى لعنة في مجتمع ذكوري يعاملها كسلعة.
يقول فيديكيند على لسان أحد الشخصيات في المسرحية:
“ما يسميه الرجال حبًا، ليس إلا غزوًا وانتصارًا على الضعف”.
هذا الاقتباس يعبر بوضوح عن نظرة الكاتب إلى العلاقات العاطفية في ذلك الزمن، حيث تفتقر العلاقات إلى التوازن وتُبنى على استغلال القوة وإخضاع الطرف الآخر.
معاناة المرأة الألمانية في ظل القيم البورجوازية
تُظهر المسرحية المعاناة اليومية التي تواجهها النساء في مجتمع مليء بالتناقضات الأخلاقية. فالمرأة تُدان إذا حاولت تحقيق استقلالها، لكنها في الوقت ذاته تُعامل كأداة لتحقيق مصالح الرجال. لولو ليست مجرد شخصية خيالية؛ بل هي رمز للمرأة التي تحاول التمرد على هذه القيود، لكنها تُواجه بمصير مأساوي نتيجة لهذا التمرد.
في أحد المقتطفات الشهيرة من المسرحية، يقول فيديكيند:
“المرأة هي السر الذي لن يفهمه الرجل أبدًا”
من خلال هذا الاقتباس، يعبر الكاتب عن احترامه للطبيعة المعقدة للمرأة، لكنه في الوقت ذاته يشير إلى الفجوة الفكرية والعاطفية بين الجنسين في ذلك العصر.
الرمزية في “صندوق باندورا”
العنوان ذاته، “صندوق باندورا”، يحمل دلالة رمزية قوية. ففي الأسطورة اليونانية القديمة، كان صندوق باندورا مليئًا بالشرور التي انتشرت في العالم عند فتحه، لكنه احتوى أيضًا على الأمل. هذا التشبيه يعكس حياة لولو؛ فهي تجسد الأمل والطموح والجمال، لكنها في الوقت ذاته تصبح محورًا للشرور الاجتماعية كالاستغلال والعنف والنفاق.
دور المرأة في مجتمع الكاتب “فيديكيند”
رسم فيديكيند صورة واقعية للمجتمع الألماني خلال أواخر القرن التاسع عشر، حيث كانت النساء يعشن تحت وطأة القوانين الذكورية الصارمة. ومن خلال شخصية “لولو”، سلط الضوء على التناقضات التي تواجهها النساء: فبينما يُحتفى بجمالهن، يُنظر إليهن كضعيفات ومثيرات للمتاعب.
أثر العمل واستمراريته
إن مسرحية “صندوق باندورا” كان لها تأثير كبير على الأدب والمسرح، وألهم العديد من الفنانين. على سبيل المثال، تم تحويل المسرحية إلى فيلم صامت شهير بنفس عنوان المسرحية في عام 1929، من إخراج جورج فيلهلم بابست، والذي أصبح علامة فارقة في السينما العالمية.
يعد “صندوق باندورا” شهادة أدبية فريدة على معاناة المرأة الألمانية في ظل مجتمع مادي بطريركي. استطاع فرانك فيديكيند، من خلال عبقريته الأدبية، أن يعكس معاناة النساء ويقدم نقدًا اجتماعيًا يتجاوز حدود عصره.
كما أن هذه المسرحية، برمزيتها وعمقها، تظل صالحة للتأمل والدراسة حتى اليوم، كونها تتناول قضايا لا تزال حاضرة في المجتمعات الحديثة.