استلهام التراث العربي في أعمال الشاعر الألماني “جوته”
منذ 10 ساعات
0 526 2 دقائق
بقلم:
الدكتور إبراهيم حامد عبداللاه…
أستاذ الادب الألمانى…رئيس قسم اللغة الألمانية-كلية الآداب-جامعة بنى سويف- عميد كلية الألسن سابقا
إن الشاعر الألماني يوهان فولفجانج فون جوته (1749-1832)، أحد أعظم أدباء ألمانيا والعالم، الذي تأثر بعمق بالثقافة العربية والإسلامية، وترك هذا التأثير بصمة واضحة في أعماله الأدبية والفكرية. وقد جاء هذا الاستلهام نتيجة لانفتاحه على الأدب الشرقي، خاصة الشعر العربي والفارسي، وسعيه لإيجاد حوار ثقافي وروحي بين الشرق والغرب.
كان جوته قارئًا نهمًا للتراث العربي من خلال الترجمات الأوروبية للأدب العربي والإسلامي. ومن بين أبرز الأعمال التي أثرت فيه القرآن الكريم، حيث أبدى جوته إعجابًا عميقًا بالقرآن من حيث الجمال البلاغي والفلسفة العميقة التي يحتويها، كما كان الشعر العربي الكلاسيكي، الذي أثر فيه بشدة خاصة شعر الحب والغزل والحكمة.
كما كان ديوان حافظ الشيرازي من أهم مصادره على الرغم من أن حافظ كان شاعرًا فارسيًا، فإن الكثير من أفكاره وصوره الشعرية ترتبط بتقاليد الشعر العربي، ما جعل جوته يقترب أكثر من التراث الإسلامي.
وكان من نتيجة هذا التأثير أن نجد في كتبه أمثلة على استلهام هذا التراث العربي مثل “الديوان الغربي الشرقي”، هذا العمل، الذي صدر عام 1819، يمثل أبرز تجليات استلهام جوته للتراث العربي والإسلامي، ويشكل الكتاب جسرًا أدبيًا بين الشرق والغرب، مستوحى من ديوان حافظ ومن روحية الشعر العربي في جماله وتركيزه على الحب والروحانية، ففي قصيدة “غزل”، التي هي قصيدة ضمن الديوان، يستحضر جوته أسلوب الغزل العربي التقليدي من حيث الوصف الحسي للعشق والطبيعة. كما تناول في الكتاب أيضًا شخصيات رمزية مثل “الشيخ شهاب الدين”، حيث يجسد القيم الروحية المرتبطة بالتصوف الإسلامي.
وكذلك نجد الكثير من الإشارات القرآنية في العديد من أعماله، فقد أشار جوته إلى القرآن كمصدر إلهام، على سبيل المثال، قال إن”القرآن كتاب له مكانة سامية في قمة الأدب العالمي، يتحدث بلغة ملهمة عما هو إلهي وإنساني، وفي “الديوان الغربي الشرقي”، يظهر تأثير القرآن في روحانية اللغة وعمق المعاني التي حاول التعبير عنها.
وقد تأثر جوته بشدة بشعراء العرب الكلاسيكيين مثل أبي تمام (803-845) والمتنبي (915-965)، وكان يقدر الحكمة الموجودة في أشعارهم، وخاصة في قصائد الحكمة التي تحمل معاني عميقة تتعلق بالكرامة والشجاعة والعدالة، وقد أبدى الشاعر الألماني اهتمامًا خاصًا بالمعلقات، وهي مجموعة من القصائد الجاهلية التي تُعتبر من كنوز الأدب العربي، حيث قام بترجمة بعض أبيات هذه القصائد، مما يعكس إعجابه بأسلوبها البلاغي وموضوعاتها، أما قصائد الشاعر “تأبط شرًا” (توفى سنة 607 م) فقد أعجب جوته بشعره عندما قرأه في ترجمة لاتينية، ثم ترجمه بتصرف وأدرجه ضمن تعليقاته على “الديوان الشرقي، فتعكس هذه القصائد موضوعات الانتقام والفخر، وهي جزء من التراث الشعري العربي الذي أثر في تفكيره.
أما قصيدته “عاملوا النساء” فكتبها متأثراً بأحاديث الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، مما يدل على تأثير التعاليم الإسلامية في كتاباته.
تظهر هذه القصائد كيف أن جوته لم يقتصر على قراءة الأدب الشرقي فحسب، بل تفاعل معه بعمق وأثرى تجربته الأدبية من خلال استلهام الأفكار والمواضيع الإسلامية.
وفي أدبه نجد رؤيتة الخاصة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، ففي قصيدته “نشيد محمد”، يُظهر جوته تقديره لشخصية النبي الكريم، حيث تصور القصيدة النبي كشخصية قيادية ملهمة تقود الإنسانية نحو النور، في إشارة إلى القيم العالمية التي رآها جوته في الإسلام.
إن إستلهام جوته للتراث العربي يعكس عمق انفتاحه الفكري وتقديره للحضارات الأخرى، فقد تمكن من تجاوز الحواجز الثقافية واللغوية ليخلق حوارًا أدبيًا وروحيًا غنيًا بين الشرق والغرب، وإن أعماله مثل “الديوان الغربي الشرقي” تظل شاهدة على رؤية عالمية ترى في التنوع الثقافي مصدرًا للإثراء والتفاهم.