✍️بقلم:- أ.د. ابراهيم حامد عبداللا
عميد كلية الالسن جامعة بني سويف الأسبق
رئيس قسم اللغة الالمانية بكلية الآداب جامعة بني سويف
جينتر جراس (1927 – 2015) هو واحد من أبرز الكتاب الألمان في القرن العشرين. يعدّ من الأدباء الذين تركوا بصمة كبيرة في الأدب الألماني والعالمي، وقد نال جائزة نوبل للأدب في عام 1999 تقديرًا لمساهمته العميقة في الأدب المعاصر. من خلال أعماله الأدبية، قدم جراس نظرة نقدية على تاريخ بلاده وتطوراتها، محاولًا فك شيفرة التناقضات التي عاشتها ألمانيا، خصوصًا بعد الحرب العالمية الثانية.
النشأة والمسار الأدبي
وُلد جينتر جراس في 16 أكتوبر 1927 في مدينة دانتسيش (التي كانت جزءًا من بولندا اليوم)، في عائلة من الطبقة العاملة. فقد نشأ في فترة شهدت فيها أوروبا أوقاتًا عصيبة، حيث كانت الحروب العالمية والديكتاتوريات تهيمن على المشهد السياسي والاجتماعي. في شبابه، خدم في القوات الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية، ليعيش بذلك تجارب مريرة تركت أثراً عميقًا في أعماله لاحقًا.
بعد الحرب، التحق جراس بمدرسة الفنون الجميلة بمدينة دوسلدورف ودرس النحت، وهو ما كان له تأثير كبير على أسلوبه الأدبي الذي امتاز بالصور الشعرية والتعبيرات الفنية الغنية. ورغم نجاحه في النحت، قرر جراس أن يتوجه نحو الكتابة الأدبية، فحقق شهرة واسعة بفضل أسلوبه المميز والنقدي.
أعماله الأدبية
رواية (طبلة من صفيح” (1959″
يعدّ هذا العمل الأكثر شهرة لجينتر جراس، وهو بداية انطلاقته الكبرى في الأدب الألماني والعالمي. تم نشر رواية “طبلة من صفيح” في عام 1959، وهو الجزء الأول من ثلاثية “المنزل الحديدي” التي تناولت تاريخ ألمانيا في القرن العشرين. تدور أحداث الرواية حول شخصية “أوسكار ماتيرني”، الذي يقرر التوقف عن النمو في سن الثالثة، ليعيش في عالم خاص به محاصر بين الواقع والخيال. تعتبر هذه الرواية بمثابة تأريخ للعصر النازي والحرب العالمية الثانية من خلال عين طفل، حيث تظهر التوترات السياسية والاجتماعية التي كانت تهيمن على ألمانيا في تلك الفترة خلال نصوص الرواية.
تعكس الرواية تأثير الحرب العالمية الثانية على الأفراد والمجتمع الألماني، وكذلك صراع الأجيال، والقدرة على مواجهة الذنب الجماعي الذي حملته الأمة الألمانية بعد الحرب. وفي هذا الكتاب، تبرز أيضًا رواية “طبلة من صفيح” الذي كان يحمل رمزية للعزلة والتجدد الشخصي، في حين يقدم الكاتب جينتر جراس صورة معقدة عن تاريخ ألمانيا والذنب الجماعي المرتبط بالحرب.
رواية (القط والفأر” (1961″
نُشرت رواية “القط والفأر” في عام 1961، وتُعتبر تكملة غير مباشرة للعمل الأدبي “طبلة من صفيح”. تدور أحداث الرواية حول الشاب الألماني الذي يعاني من آثار الحرب ومأساة النازية. تمزج الرواية بين السخرية والتراجيديا لتسليط الضوء على الاضطراب النفسي للألمان بعد نهاية الحرب، وعلاقتهم بالماضي والذاكرة الجماعية.
(السنوات الضائعة” (2002″
من بين أعماله اللاحقة، “السنوات الضائعة” هو كتاب يجسد تأملات جراس في مرحلة متقدمة من حياته. يطرح جينتر جراس في هذا العمل أسئلة حول الانحدار السياسي والعلمي في ألمانيا الحديثة، ويتناول بشكل خاص موقف الألمان من جرائم الحرب، وكيفية التعامل مع التاريخ الألماني المُعقد. إن هذا الكتاب يعكس تفكير جراس العميق في الأزمات التي مرّت بها بلاده والتوترات التي تحكم تاريخها.
آراء نقدية ومواقف سياسية
لطالما كان جراس مثار جدل بسبب مواقفه السياسية، فقد كان معروفًا بتأييده للقضايا اليسارية، وكان دائمًا ما يعبر عن قلقه حيال الأوضاع السياسية في بلاده والعالم. إن الرجل في كتاباته، لم يتردد في انتقاد السياسة الألمانية أو المواقف الأوروبية تجاه الحروب أو الاستبداد، حتى وإن كان ذلك يعني الوقوف في وجه حكومته أو المجتمعات الغربية.
إن أحد أبرز المواقف المثيرة للجدل كان في عام 2006، عندما كتب جراس في مقال نشره في صحيفة “دير شبيجل” عن قلقه من التصعيد العسكري الألماني في الشرق الأوسط، واصفًا ذلك بأنه تهديد للسلام العالمي. وقد أثار هذا المقال ردود فعل متباينة، حيث اعتبره البعض محاولة لإلقاء اللوم على ألمانيا في المشاكل العالمية.
لكن في عام 2006 أيضًا، أثار جراس الجدل بشكل أكبر حين أعلن في سيرته الذاتية “عنّي” أنه كان عضوًا في قوات “وحدات الحماية الشعبية” في النازية (SS) في شبابه، وهو اعتراف اعتبره كثيرون صدمة في تاريخ جراس الأدبي والسياسي. فقد كشف هذا الاعتراف عن تناقضات كبيرة بين صورة جراس العامة كمنتقد للنازية وبين ماضيه الشخصي.
الإرث الأدبي
خلال مسيرته الأدبية الطويلة، كتب جراس العديد من الأعمال التي تدرس في الجامعات والمدارس حول العالم، ومن بينها القصص القصيرة والمقالات والمسرحيات. من خلال مزيج من السخرية والرمزية، استطاع جراس أن يترك إرثًا أدبيًا يعكس ليس فقط تجربته الشخصية بل أيضًا الاضطرابات الكبيرة التي مرّ بها المجتمع الألماني.
لقد لعب جينتر جراس دورًا محوريًا في تشكيل الخطاب الأدبي في فترة ما بعد الحرب في ألمانيا، وامتد تأثيره إلى العديد من الأجيال. وبالرغم من بعض الجدل حول مواقفه السياسية، لا شك أن أعماله الأدبية ستظل جزءًا لا يتجزأ من تاريخ الأدب الألماني والعالمي، وستظل دراسة تأثيراته على الأدب والفكر الأوروبي مفتوحة للبحث والتحليل لعقود قادمة.
جينتر جراس لم يكن مجرد كاتب، بل كان شاهدًا على العصر، ناقش قضايا الحرب، والذنب، والذاكرة الجماعية، والعدالة الاجتماعية، بأسلوب أدبي يجمع بين الأسطورة والواقع. إن أعماله، التي تطرقت إلى الذاكرة التاريخية الألمانية، ستبقى دائمًا تثير النقاش وتستدعي التفكير في القيم الإنسانية والعدالة الاجتماعية.