أخبارمنوعات

القلق الوجودي والسفر إلى الخلود.. قراءة في رواية “لعبة السفر” لـ: طارق فراج

بقلم : أحمد عميرة إبراهيم

 

“أنت لم تغادر واحتك لتتفرج على نزيف الأقدام فوق الأرصفة الزلقة الباردة. واهمٌ أنت؛ ظننتَ أنك انسللتَ تاركًا الريح خلفك، لكنك اكتشفت أنها ما زالت تعوي داخل صدرك. جئت مشبعًا برائحة الصحراء، وانكسر ذلك القفل الصدئ لصندوق ذكرياتك الصغير. منذ أن سكنتَ المدينة وقوافل الذكريات تزلزل كيانك كل يوم إذ تمر أمام ناظريك، تحملك معها إلى بيوت الطين، وأسقف القش والبوص، ورائحة الخبز الطازج؛ تحملكَ إلى حياتك التي كنت تظن أنك تكرهها. لم تكن تعرف أن الحياة في المدن رحلة هروب كبرى، قد تبدأ مصادفة، لكنها لا تنتهي أبدًا.” الرواية ص148 

تتألف رواية لعبة السفر، من بنية ظاهرة يراها الجميع، ألا وهي صورة الواحات قديما بما تشتمل عليه من بشر وعمارة وأزياء وفلكلور وخرافات، …إلخ، وقد حشد المؤلف لهذه البنية كل أدواته الفنية من سرد شعري وحبكة درامية وشخصيات وتصوير رائع، بل إنه استخدم أسلوب المونتاج السنيمائي في عرض الأحداث.

ثمة بنية أخرى عميقة تتمثل في النزعة الإنسانية للسرد والتي بفضلها أضحت الرواية نصا إنسانيا يتسامى فوق الزمكان؛ يشير إلى ذلك إهداء المؤلف إلى “شجرة الإنسانية أينما تكون”، وأينما وجد الإنسان وجدت معه الثنائيات الأزلية: الحياة/ الموت، الخير/ الشر، الجسد/ الروح، المغادرة/ الوصول، أو الحضور/ الغياب، الرجل/ المرأة.

تبدأ الرواية بأن يدخل “قاسم” البيت ليجد أمامه الغواية متمثلة في “رشيدة”، وتأمل دلالات الأسماء على شخصياتها: “قاسم” من القسمة أو القضاء والقدر، و”رشيدة” من الرشد وهي التي كانت سببا في شقائه وسفره طوال الرواية؛ وبمجرد أن يتأهب “قاسم” للسفر بحثا عن الرزق يقدم الغريب/ المحتل، الغاصب/ الشيطان ليسرق أقوات الواحة وينتهك حرماتها بل ويزني بزوج “قاسم” نفسه.

يتقابل “قاسم” والغريب في لحظتي الوصول والمغادرة لكل منهما لقاء دراميا وفلسفيا يعمق مأساة الإنسان ومكابدته في هذه الحياة؛ ولاحظ مرة أخرى دلالة اسم الغريب: “جنيد البري” وما تحمله من دلالة متناقضة: الدلالة الصوفية للاسم الأول، والدلالة الأرضية للاسم الثاني! فالغريب/ المحتل/ الشيطان يتظاهر بالمسكنة والخير وهو لا يحمل إلا الحقد والشر.

يبدأ الإنسان حياته طفلا لا يحمل هما ولا يقف كثيرا أمام أسئلة الوجود، لا يلبس قناعا، لا يلون الكلام ص21 ثم يكبر ويشيخ ويموت كأن لم يكن: “محيت آثار خطواتهم من الدروب، وغابت ملامحهم من ذاكرة الناس” ص30 في إشارة إلى البشر.

ولأن الموت شبح يطارد الإنسان منذ ولادته فإن الحياة “تنفلت من بين أيدينا كما ينفلت الماء من بين أصابع ظامئ” ص109 لذلك يسعى الإنسان في لحظات ضعفه البشري إلى اقتناص اللذة/ الحياة بمبرر أو من دون مبرر أحيانا (مناجاة “جنيد” أثناء سرقته لغلال “زينب” التي عطفت عليه!) ص50.

وخلال رحلة الحياة القصيرة – وإن طالت- نلهث فيها من غير وعي أملا في الخلود ولا نتورع عن فعل شيء في رحلة سفرنا هذي، حتى أننا نستخدم الدين نفسه مطية لرغباتنا (مصحف زينب ص58) أو (سرقة الغريب لنذور الضريح ص73).

الرواية تحتفي بالموت احتفاء لا يخفى على القارئ، يظهر ذلك جليا ص109 وما بعدها، حتى أنه –أي الموت- يرد باسمه: “فالموت على كل حال يحدث داخلنا، تستسلم المشاعر أولا، يتلاشى الأمل…” ص110 

ومن منطلق الثنائيات الإنسانية الأزلية المشار إليها آنفا ومن منطلق التضاد العاطفي للشخصيات وللسارد أيضا؛ نجد الأطفال يذهبون إلى المقابر مع المشيعين للموتى ليأكلوا من شجرة لذيذة الثمر تسمى “عنب الميتين”! هي الحياة إذا أو قل –إن شئت- الحياة والموت في لحظة واحدة.

ليس هذا فحسب فالموت نفسه أمسى طقوسا فلكلورية هامشية (ثرثرة النسوة وهن في المقبرة حول أمور البيوت وأحوال النساء)

“الحقيقة الأزلية التي نكرهها ونخشاها جميعا هي أننا سنموت… نحمل بذرة الحياة داخلنا ونعمل لها ومن أجلها، وفي المقابل نحمل بذرة الموت التي تكبر شجرتها في أعماقنا يوما بعد يوم دون أن ننتبه” ص114      

السفر المشار إليه في عنوان الرواية إذا ليس سفرا تقليديا بمعنى الانتقال من مكان لآخر، إنما هو –كما أظن- سفر دائم إلى الخلود، ولنعود إلى بداية الرواية ونرى مشهد الأطفال وهم يلعبون “لعبة السفر” سعيا إلى الوصول إلى “آخر الدنيا” ص20 بحثا عن عوالم أخرى.

“يولد الناس جميعا بأحلام واسعة، وكلما كبروا اصطدمت رؤوسهم بصخور الواقع” ص20 ومع ذلك تسير الحياة والموت في خطين متوازيين وكأن الدنيا حلم كبير لم نستيقظ منه بعد، لكن “باب القدر الخفي ماثل تحت قدمي كل إنسان، لكننا لا نعرف بوجوده على الإطلاق” ص147    بهذه النزعة الإنسانية كتب (طارق فراج) نصا عالميا رغم إغراقه في المحلية، ولم يصل إلى ما وصل إليه إلا بإنسانيته المفرطة!

  

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى